المذكرات اليمنية: صمتٌ ثقيل وصراعٌ على الذاكرة
![9615المذكرات اليمنية: صمتٌ ثقيل وصراعٌ على الذاكرة المذكرات اليمنية: صمتٌ ثقيل وصراعٌ على الذاكرة](https://hadathnews.net/wp-content/uploads/2025/02/صهيب-المياحي.webp)
حدث نيوز: صهيب المياحي
“من لا يكتب تاريخه، يصبح صفحة بيضاء في كتاب الآخرين.”
هذه العبارة تختصر مأساة المذكرات في اليمن؛ بلد عظيم بالتاريخ وفقير بالذاكرة. عبر عقود، ظلَّت الأجيال تبحث في ركام الأحداث عن شذرات من الحقيقة، ليظل السؤال معلّقاً: لماذا صمت روّاد اليمن وصانعو تحوّلاته الكبرى؟
إن كتابة المذكرات ليست مجرد فعل أدبي؛ إنها مقاومة، رفض للتهميش، وكشف لحقائق حاولت قوى كثيرة دفنها أو تشويهها. ومع ذلك، بقيت الشخصيات التي شكَّلت المشهد السياسي والثقافي اليمني حبيسة صمتها، تاركة أحداثاً كبرى بلا رواة، وتفاصيل مفصلية بلا توثيق.
في اليمن، تتجلى المفارقة بشكل صارخ. الشخصيات التقليدية، القبلية والعسكرية، التي اعتادت التعامل مع القوة والواقع، أدركت أهمية الكتابة كأداة للخلود السياسي. فكتب الشيخ سنان أبو لحوم وعبدالله الأحمر وأحمد إسماعيل “أبو حورية” مذكراتهم، وكأنهم يقولون للأجيال القادمة: “هذا ما صنعناه، وهذه رؤيتنا”.
في المقابل، ظلت الشخصيات المدنية، التي نشأت في رحم الثقافة الوطنية الحديثة، تلوذ بالصمت. رموز كعبدالله السلال، أول رئيس للجمهورية، والأستاذ أحمد محمد نعمان، الأب الروحي للحركة الوطنية، وعلي سالم البيض، الشريك في الوحدة، اختاروا ألا يقولوا شيئاً. كيف يمكن تفسير هذه المفارقة؟ لماذا من يُفترض أنهم أكثر وعياً بأهمية الكلمة وأثرها اختاروا الغياب؟
الصمت هنا ليس مجرد إحجام عن الكتابة، بل هو نتيجة لصراع داخلي مرير. كثير من هذه الشخصيات عاشت إحباطاً قاسياً بعد خروجها من المشهد السياسي، وعانت من صدمات نفسية جعلتها ترى الماضي عبئاً لا يمكن حمله. عبدالله السلال، مثلاً، عاش سنوات طويلة في المنفى بعد الإطاحة به، ومع ذلك لم يترك شهادة مكتوبة على الأحداث التي قادها. الأستاذ النعمان، رغم دوره المحوري في بناء المشروع الوطني، لم يكتب سوى أجزاء مقتضبة من سيرته، تركها في تسجيلات صوتية، وكأنها رسائل مقتطعة من زمن الأمل.
لكن الإحباط ليس التفسير الوحيد. الهيمنة السياسية والاجتماعية لعبت دوراً كبيراً في طمس الحقيقة. كثير من الشخصيات واجهت ضغوطاً مباشرة أو غير مباشرة جعلتها تخشى أن تُظهر تناقضات الماضي أو تُحرّض القوى المهيمنة.
غياب المذكرات في اليمن ليس مجرد صمت أفراد، بل هو جزء من ظاهرة أوسع: غياب ثقافة التوثيق. القوى التقليدية، التي سيطرت على المشهد لعقود، كانت تدرك أهمية السيطرة على السردية التاريخية. فكتبت مذكراتها لتبقى رؤيتها هي السائدة. أما القوى الوطنية المدنية، التي حملت مشروع الدولة الحديثة، فقد أخفقت في تثبيت رؤيتها، وكأن مشروعها ولد بلا لسان.
هذا الصمت ترك فراغاً خطيراً. فالأحداث الكبرى، من الثورة والجمهورية إلى الوحدة والصراعات المتلاحقة، بقيت رهينة روايات مشوهة أعادت تشكيلها القوى المنتصرة وفقاً لمصالحها.
في عالم يموج بالصراعات، تُصبح كتابة المذكرات أكثر من مجرد تسجيل للذكريات. إنها فعل مقاومة ضد محاولات التهميش والتزييف. الشخص الذي يكتب روايته، يثبت حضوره في التاريخ، ويرفض أن يُختزل في هامش أو يُمحى من الذاكرة.
رغم صمت الجيل الذي صنع الأحداث، فإن الفرصة لا تزال قائمة. الوثائق القديمة، والمذكرات الناقصة، والرسائل المتناثرة، يمكن أن تكون نقطة البداية. الجيل الجديد، الذي يشهد اليوم مآلات الحاضر الكارثية، يحمل مسؤولية مزدوجة: استعادة الماضي وفهمه، وكتابة الحاضر لتوثيق معاناة الناس وأحلامهم.
لعلّ أكبر درس يمكن أن نستخلصه من غياب المذكرات اليمنية هو أن التاريخ ليس مجرد سرد للماضي، بل أداة لبناء المستقبل. من يمتلك روايته، يمتلك الحق في الحاضر، ويضع قدماً ثابتة في طريق الغد.
التاريخ في اليمن ليس فقط صراعاً على الأرض والسلطة، بل هو أيضاً صراع على السردية. المذكرات، رغم بساطتها الظاهرة، تحمل قوة هائلة: قوة تحدي النسيان، وكشف الحقيقة، وبناء الذاكرة الجماعية. في بلد مثل اليمن، حيث الصمت يخيم على الماضي، والحقائق تُدفن مع أصحابها، تصبح الكتابة ضرورة. إنها ليست رفاهية، بل واجب على كل من عاش اللحظة، وشهد التحول، ورفض أن يكون جزءاً من صمت مدوٍّ يترك الأجيال القادمة بلا دليل.