مقالات

ليلةُ القَدْر.. ليلةُ الرّزق (2) ليلة المَشْقُوم..!

كانت ليلة الثالث والعشرين من رمضان.. وكان دحّان العُزَيق يواصل تحيُّن ليلة القَدْر في معتكفه بمسجد القرية البسيط، إلى جوار أربعة معتكفين آخرين، فيما غادر الخامس “حُمَادي المَشْقُوم” المسجد صبيحة أول ليلة قضاها فيه، دون أن يُفصح، وعاد إلى بيته.

ثمّة آخرون، شبابٌ وراشدون ويافعون، يرتادون المسجد الذي بات ملتقى تجمعهم، بمناسبة الاعتكاف ومشاركة دحان، خصوصا قبيل المغرب، وبعد التراويح.. ثلاثة فقط يأتون للصلاة وتلاوة القرآن، لكن أكثر من عشرة يأتون إلى مكان عام رغبة باللّمّة، والأُنْس والمزاح مع بعضهم وخصوصا العزيق، الذي لم يكن؛ هذه الليالي المباركة، في وادي المزاح والضحك، إذ كان الله يشغل وجدانه، وقلبُه معلقٌ بالمسجد، ولسانُه يلهج بالذكر والدعاء طلباً للا شيء أكثر من سعة الرزق.

وإمعانا في التحري، قرّر دحّان التعامل مع جميع الليالي دون تمييز بين فرد وزوج، خصوصا في ظل ما يطلق عليه “الدُّبَاش” الذي يشهده رمضان، إذ اختلفت دولٌ كثيرةٌ في تحديد أول يوم في الشهر الفضيل، فبينما صام اليمن والمغرب وتركيا ودولٌ أخرى السبت، صامت السعودية ومصر والكويت وتونس وسوريا الجمعة، فيما دول أخرى قليلة صامت الأحد، بينها ليبيا وإيران.. هكذا سمع من إذاعة لندن التي يرى أنه لا تكذب، وذلك ما جعل احتمالات الخطأ مفتوحة بقوة، الأمر الذي سيقلب الليالي الفردية زوجية.. والعكس..

لم يكن هناك مجال للتفريط بهذه الفرصة هذه المرة، وقد تهيّأ لحيازتها تماماً، سواء كانت ليلة اثنين وعشرين أو سبع وعشرين، سيان الأمر.. بما هي الأمل في الرزق والحياة والمستقبل. سيعيش كل ليلة فردية او زوجية باعتبارها ليلة القَدْر.. هكذا قرر.

عقب صلاة التراويح، أمْسك دحّان بالمَشْقُوم، وسأله عن سبب مغادرته المُعتَكف بعد أول ليلة، وبعد طول إلحاح، وإذ سأله بالله أن يخبره، رد المَشْقُوم “مابوش فايدة من الاستمرار في المُعتَكف.. حرام وطلاق إنّ ليلة القَدْر جزعت ليلة واحد وعشرين.. لا تقليش كيف دريت.. أنا قلبي دليلي، أكثر من كل العلامات.. الحمدلله الذي وفّقْني “..

تدخل البعض لنقاش “المَشْقُوم” واقناعه بالبقاء، لكنه خرج إلى باحة المسجد، وادخل يده تحت قميصه ليخرج علاقي قات كبيرة، كانت محشوّةً جوار بطنه، ثم بدأ يأخذ الأغصان بأطراف أصابعه ويحشوها في فمه، ثم أخرج سيجارة وأشعلها وأخذ نفسا عميقا، وتحدث بقناعةٍ أكثر، وهو ينفث الدخان أمام وجوه محدثيه.. “اسمعوا.. صلوا على النبي.. هيا حرام وطلاق إنه ما معكم من الاعتكاف بعد ليلة 21 إلا العذاب والسهر وورم الأرجل بعد أحمد مسعد القاضي الذي يفصع ظهوركم بالبقرة وآل عمران.. أما ليلة القَدْر وطلاق إنه قجزعه بأول ليلة من العشر.. موعا جلستكم.. بقية الأيام مثلها مثل كل أيام رمضان.. مابوش لهن فضل.. أنا ما أقلش لكم لا تصلوش ولا تصوموا.. لكن لا تستنوا ليلة القَدْر”. قالها وغادر وهو يلتهم مزيدا من القات بشراهة.

وفيما ضحك العُزيق من المَشْقُوم، وقال لهم “الله وَدِيعُه.. حقُّه معه”.. دعا له الإمام بالهداية والعقل، واعظاً البقية بأن ليلة القَدْر لا يمكن الجزم بها، وأن أماراتها مجرد قرائن لا تُؤَكد يقينا أنها مرّت في ليلة معينة ولا تلغي فضل بقية الليالي، كما وقد تكون ليلة القَدْر خلاصة عبادة جميع الليالي.

تذكر دحّان أن المَشْقُوم أغرق في مراقبة السماء طوال الليل، كان يقفز بعد كل ركعتي تهجُّد متطلعا نحو السماء ليرى أمارات ليلة القَدْر.. كان خاشعاً بالفعل ليلتئذ، وسمعه ينْتَحب بهدوءٍ إلى جواره أول ليلة وهو ساجد، وظل يراقب أمارات ليلة القَدْر حتى شروق شمس بلا شعاع، لكنه لم ينتبه على ما يبدو لما أدركه دحان..

لقد سمع في آخر ركعة قبل آخر ركعة وتر عواء كلب، من مكان بعيد، يبدو عليه حزن الدنيا، لا يسمعه إلا من يمتلك آذاناً صاحية غير مشوشة.. لم تمنع الصلاة العزيق أن يلعن الكلاب، في قرارة نفسه، بل أوشك أن يلعن معها من يعطف عليها ببقايا “اللقم” من القرية والقرى المجاورة.

حتى أحمد مدهش، الذي لم يكن معتكفاً، وكان يأتي فقط للصلاة والتهجد، وهو من النوع الذي يقتنع بالراي الأكثر انفعالا وغرابة والمعزز بالأعلى صوتا وضجيجا، وها إنه يبدو قد تأثر بالمَشْقوم..

فما إن أنهى التراويح حتى جلس في فناء المسجد الخارجي بالظلام مُتَّكِئِاً على حجر، ويحشو فمه بقاتٍ طريٍّ للتّو قطفه من الحول قبل صلاة التراويح، فهو لا يرغب القاتَ إلا طريّاً، يعافُه إنْ مضى أكثر من 4 ساعات على قطفه.. وبين الحين والآخر، يضيء بالإتريك (مصباح يدوي) ليتفقد ما إذا كانت حشرة قد تسللت إلى داخل كيس القات أو خرجت دودة خضراء من بين أوراقه.
بقي مع الجماعة حتى الساعة العاشرة إلا ربع، واستأذنهم وأخبرهم أنه سيذهب يكمل السمرة في الديمة ويحرس القات ولن يعود إلا فجراً..
سأله دحّان “مشتصليش معانا تهجُّد..”!
رد عليه بأسى: والله يا بن عمي صورته المَشْقُوم تَحَدّف ليلة القَدْر وجزع.. رزقه.. معابوش فائدة.. الرجال حلف بطلاق إنه جزعه ليلة 21.. وإذا مجزعيش والله ما يبرح من جنبكم.. أنا شجزع احرس قاتي.. قانا خايف ليسرقوه عليا.. وبعدى من دوّره كُلّه.. ضيّعِه كُلّه”.

كان انفضاض الناس من التهجد والاعتكاف محبطاً للبقية، فالملل يسيطر مع كل ليلة فردية أو زوجية.. لكن العزيق كان قد حسم أمره.. ليلة القدر حتى لو بقيت لوحدي حتى صلاة العيد..

المصدر : من صفحة الكاتب سامي نعمان على الفيسبوك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى