ترتبط الأرض بالإنسان ارتباطًا وثيقًا، ويتجلى هذا الارتباط بوضوح عند الشعراء، الذين يجدون في الطبيعة والأرض مصدر إلهام لا ينضب يتجسد لنا ذلك من شخصية الشاعر الدكتور سلطان الصريمي الذي جعل من الأرض الملهمة الأولى له بقصائده وجعلها الأم التي يرضع منها الكلمات والصور ليحاكِ بها مشاعره وتجاربه ومن ذلك قصيدته “باكر ذري” التي غناها عندليب الاغنية اليمنية الكبير “عبد الباسط عبسي” وهذا مقطع منها:
“باكر ذري تأزري وخضراء
حسك تليمي من عيون الغدره
امانتك لا تهمليش الغبراء
خلينا نفرح بالذرى والحمراء”
الصريمي : رمز من رموز القصيدة السياسية في اليمن
الوضع السياسي الذي تعيشه البلاد يلعب دوراً محورياً في تكوين مفردات الشاعر وتفجير مخزونه الشعري فيبوح بما داخله وتصوره للوضع بقصائده وهنا يبرز الصريمي كأبرز رموز القصيدة السياسية اليمنية وتبرز معه قصيدة نشوان القصيدة التي أحدثت ضجة واسعة عند إصدارها لأول مرة بصوت الراحل محمد مرشد ناجي وتعرض بسببها الشاعر للمطاردة وحملات التشويه والتهميش وحرم من راتبه بسببها وصنفت وقتذاك من أقوى القصائد السياسية في اليمن
حقيقةً لقد ظلمنا قصيدة نشوان كثيراً بوصفها قصيدة سياسية تابعة لجماعة محددة أو رمز لجماعة محددة فالقصيدة تشمل اليمن ككل وتتحدث عن شعب بأكمله.
“بنت شيخ الجان” في القصيدة رمزية جميلة يوحي بها الشاعر إلى الجارة الشقيقة أو القبيلة اليمنية وشيخ الجان الأحمر آنذاك وايضاً طاهش الحوبان وعصابة عمنا رشوان في القصيدة كانت رموزًا إيحائية لشخصيات في الدولة.
وفي أبجدية البحر والثورة الكثير والكثير من اتجاهات السياسة والرمزية الوطنية
“يا هاجسي”: صوت المقاومة والكرامة
قصيدة “يا هاجسي” هذه الأغنية التي غناها العندليب عبد الباسط عبسي ومن خلالها “يتجلى الصريمي وهو يعيد رسم هموم الإنسان اليمني، متحدثا عن الصبر، والمقاومة، والكرامة في وجه الظل ”
“يا هاجسي
كم أنا شصبر
والموت خلفي وقدامي
الصبر مايشبع الجائع
ولا يبرد عطش ظامي
يمين لا سمع الدنيا
هدير جرحي وآلامي
وارسم على كل يوم تأتي
خيوط حبي وأحلامي
في داخلي نار لا تطفي
حتى ولو بعد إعدامي”
الحكمة في شعر الصريمي
ولقد تجلت الحكمة في الكثير من قصائد الدكتور سلطان الصريمي ولعل قصيدة نشوان وحدها حكم تحتاج لتفسيرها دراسات وعمقًا فلسفيًا كبيرًا.. فاسمع لقوله :
“الموت يا ابن التعاسة يخلق الشجعان” فموت الثوار والأبطال يصنع مجداً ويخلق شجعان وأيضاً قوله “قطر العروق شايسقي الورد يا نشوان” فلا ندري كيف قطر العروق سيروي الورد فهذا يحتاج إلى دراسة واسعة لتوضيحها وهناك الكثير من الحكم في قصيدة يا هاجسي وابجدية البحر والثورة وفي نشوان وأحزان الشمس.
دلالة القرية في شعر الصريمي
لفظة القرية لم تذكر في القرآن الكريم إلا بالعذاب والهلاك {وكم من قرية أهلكناها} { إنا مهلكو أهل هذه القرية }
ومن هذا المنطلق أعطى الصريمي اليمن حقها بالوصف فخاطبها في الكثير من قصائده على أنها قرية يحكمها شيخ ظالم ومن ذلك قوله في قصيدة نشوان :
“من يوم خلق سيف الحسن وصالح
وأنا وحيد في قريتي أشارح”
وفي قصيدة “أمي والطاعون” وصفها على أنها قرية محصورة تحكمها ثقافة واحدة بقوله :
“يا قريتي … كم أكره المواعيد
وكم ضجر قلبي من الأناشيد
العيد وصل
ما هلش معي غدا العيد
واحباب قلبي كلهم مطاريد
والخبز والسمن الملح والغيد
عند سارق الرمان والعناقيد”
الحب في شعر الصريمي
كان الحب حاضراً في شعر الصريمي بقوة فكتب لزوجته “جميلة” حفظها الله أجمل القصائد الغرامية بداية من تليم الحب القصيدة التي غناها الفنان الكبير “أيوب طارش” الأغنية التي لها حضور كبير في قلوب الجميع
“حبيبي
قلبي يحن حنينه
فرش دموعه
وارتدف شجونه
غصنه ضمر
وجرحين عيونه
والنوم من بعدك
هجر جفونه”
وإلى قصيدة عروق الورد بصوت “عبد الباسط عبسي”
“عروق الورد مستني رعودك
حنينك يا مسقي الزرع بيدك
غصون البان تتمنى خدودك
برودك من حمى الدنيا برودك
حنين القلب ياسلمى تغنيها العيون
بصوت البن والكاذي وهزات الشجون
وكم دمعك رقص داخل عيونك
وخالط طول رقصتهن حنينك
وهبتك روحي الولهان شمعه
دفير السيل دمعه فوق دمعه
عشق نور المحبه كل بقعه
برودك يا هوى الاحباب جمعه”
فالأغنيتين شكلتا لوحة فنية فريدة في الحب ولم يقتصر شعر الصريمي على هذا فقط؛ بل شارك الناس في أفراحهم وأعراسهم فلا يوجد عرس يخلوا من زفة “عبدالباسط عبسي” وقصيدة “الصريمي”
” عش السرور”
هنين عش السرور
وحوطين غصن بلور
وطرفين البخور
بجمر يلصي من النور
هنين فيض الشعور
وزغردين من علا الدور
ومن خدود الزهور
شكين عقدين يا حور
الغربة في شعر الصريمي
كان أجدادنا في السبعينات يذهبون للغربة في الحبشة والكثير منهم لا يعودون وفي أحد الأيام ذهبت زوجة مغترب إلى سلطاننا العظيم وقصت عليه قصة زوجها المغترب ولخصها الصريمي في ملحمته الخالدة “مسعود هجر” لتصبح هذه الأغنية حمام زاجل تبعث في قلوب كل مغترب الحنين للوطن والأهل وعاد الكثير منهم إلى ديارهم .
هذه القصيدة تعرضت للسرقة وحولوها لمسلسل تم انتاجه باسم “غربة البن” بطولة “صلاح الدين الوافي وسالي حمادة” المسلسل حمل نفس الفكرة الصريمية ونفس الشخصيات وعندما انتقد الجميع المسلسل بأنه سرقة واضحة لقصيدة الصريمي فكر الكاتب بحيلة جديدة تخرجه من مأزقه فكتب جزءًا ثانيًا من المسلسل وأثبت فشله الذريع فيه فالكثير من أصحاب الاختصاص قالوا: إن مسلسل غربة البن انتهت أحداثه في الجزء الأول بعودة مسعود وهو قعيد الفراش عاجز عن الحركة
عموماً لقد ودعنا الصريمي مبكراً قبل أن يموت بعقود في أبجدية البحر والثورة بقوله:
” ودعتكم..
و الوصية بين شِعري مَقَاطِع
حاكيتكم حَرْف حَرْف
و الحرف من داخلي يخرج مُغَسَل بدمُه
مُشْ حَرف يا الله طلبناك.. ”
لقد رحل سلطان البحر والثورة تاركاً لنا كنزًا ثقافيًا وفكريًا واسعًا.
رحل سلطان للقصيدة بعد حياة حافلة بالعطاء الفكري والأدبي وغادرنا بعد أن خاطب الأرض والإنسان والثورة بشعره الغنائي العامي الذي يلامس قلوب الجميع دون استثناء.
وختاماً وداعاً أبا غسان فأنت لم تمت في أواخر ديسمبر 2024م بل متَ عندما تم مطاردتك وتهميشك بعد قصيدة نشوان ومتَ ثانيةً عندما حرموك من راتبك ومت عندما سرقوا قصيدتك مسعود هجر وانتجوها بمسلسل اسمه غربة البن.
لقد متَ أيها الضوء عندما تم تهميشك وقصائدك ولم يلتفت لك أحد ولو بتكريم حتى كرمك مكتب الثقافة عام 2012م وأنت في الثمانينات من عمرك بعد أن كنت قد يئست من التكريم
لم يمتْ منك أواخر ديسمبر 2024 إلا جسدك الهزيل أما روحك الطاهرة فقد ماتت بالخذلان ألف مرة كما حدثتنا أنت في ديوان نشوان وأحزان الشمس بقصيدتك الملحمية “نقش في جدار الحب القادم” بقولك :
الأولى مانش ذلِيلْ
وعُمْر الخوف ما حَصّلْ إلى قلبي طريق
أنا اللّي .. جُعْتْ .. اتشرّدْتْ .. أتْعَذّبْتْ
ومِنْ دَمِّي رَوَتْ كَلْ الكلابْ
وراسي فارق الجسم المُعَذَّبْ ألف مرهْ
وكُلَّما مَيَّتُوني كُنْتُ أخلقْ من جديدْ
ومِنْ مَوْتِي عرفتْ أن الحياةْ
لِلّذي ما مات مثلي مُشْ حياهْ
بارزْتُهُمْ
ما متْ إلا بعد ما بارزتُهُمْ
ضارْبتُهُمْ
أعطيتهم من دَفْتَر التجويع درسْ
من دفتر التشريد درسْ
من دفتر التعذيب درسْ
وبعد الموت كان الدرسْ
دَرْسَ الفاصِلَهْ
لا تحسبوا موتي سُهْيلْ
موتي حياةْ .. موتي حياةْ
قَتَلْت الظُّلْمْ
وأعلنت بأن الظُّلْمْ زالْ
وغنَّتْ انتصاري كل بُقْعَهْ
حين شافت في يدي اليمنى سَبُولَهْ
وفي اليسرى سِرَاجْ