مقالات

بين الصمت والكلمة: حُب لا يُقال.

حدث نيوز : صهيب المياحي

أخطئ بتفكيري حين أسمح لكِ بالتغلغل في أعماقي، حين أُسكنك في الزاوية الأعمق من روحي، كما لو كنتِ حقيقة أزلية في كونٍ مليء بالمتغيرات. أكتبك في سطوري كما يُنحت اسم على صخر، أملاً أن يبقى رغم الرياح والتآكل. لكن، هل يبقى الحب حين يظل في دائرة الصمت؟ أم أن الصمت يبتلع الحب كما يبتلع البحر أحلام الغرقى؟

أخطئ حين أتنفسك كأكسجين لا غنى عنه، كمن يضع حياته رهينة للحظاتٍ لا يملك فيها يقينًا. أقول لنفسي “أحبك” آلاف المرات، لكن الكلمات تظل أسيرة داخلي، تُحكم عليها بالسجن خوفًا من أن تتحول إلى عبارات مكررة، فاقدة للدهشة، مثل ضوء شاحب وسط نهارٍ مكتظ بالأضواء.

أخطئ حين أزرعك في نصوصي، أكتبك كما يكتب الشاعر خوفه في الليل. أكتبك في كل كلمة، وأنتِ، في كل مرة، تلتقطين الظاهر وتتركين الباطن. ربما لأنك لا تبحثين عن الحب في الحروف، بل عن المعرفة، عن تلك المعاني التي تُغذي عقلك وتُشبع فضولك. أما أنا، فأكتب لأتخفف من وجعي، لأرسم لكِ طريقًا إلى عالمي، لكنه طريق مليء بالإشارات التي لا تلتفتين إليها.

أخطئ حين أشاركك نجاحاتي، لا لأفاخر بها، بل لأضعها بين يديكِ كمن يهدي طفلاً زهرة. أرى في تلك اللحظة انعكاسًا باهتًا في عينيكِ، وأسمع كلمة “ما شاء الله” تُلقى كحكمٍ لا يحمل لا فرحًا ولا خيبة. وكأن ما أقوله مجرد ضجيج إضافي في عالمك المزدحم بالأفكار.

الحب، كما أراه، ليس تبادل كلمات ولا انتظار ردود فعل. هو أن تكون حاضرًا في حياة الآخر كما تكون الجذور حاضرة في الأرض، صامتة لكنها تحمل كل الحياة فوقها. لكنني، رغم كل شيء، أجد نفسي أبحث عن صدى، عن انعكاس لهذا الشعور. أبحث عن ذلك الحضور الذي يُثبت أن الحب ليس اتجاهًا واحدًا، بل تيارًا مزدوجًا يحملنا معًا.

ربما المشكلة ليست فيكِ، بل في توقعي. توقعي أن يُفهم الحب دون أن يُقال، أن يُقدَّر دون أن يُشرح، أن يلمع في عين الآخر كما يلمع في قلبي. لكن الواقع دائمًا أكثر تعقيدًا من القصائد، وأكثر قسوة من الأحلام. وربما، في نهاية المطاف، الحب هو أن تُعطي حتى لو كنت تعطي في فراغ، لأن الفعل نفسه هو ما يمنح الحياة معناها.

لكن الصمت، ذلك الفراغ الثقيل الذي يحيط بالمشاعر، ليس مجرد غياب للكلمات. إنه قوة خام، قادرة على بناء الجبال أو هدمها. في كل مرة أختار الصمت أمامك، أشعر وكأنني ألقي حبّي في بحرٍ عميق، حيث الكلمات التي لم تُقل تتحول إلى أحجار تسحبني نحو القاع. أتساءل: هل يمكن للحب أن ينجو دون صوت؟ هل يمكن للمشاعر أن تزدهر في ظل غياب التعبير؟

ربما نحن كائنات خُلقت لتقول، لتُعبّر، لأن الكلمة هي الجسر الوحيد بين الذات والعالم. لكن، ما جدوى الجسر إذا كان الطرف الآخر لا ينتظر العبور؟ حين أترك كلماتي حبيسة داخلي، فإنها تتحول إلى طوفان يغرقني، بينما أراكِ تقفين على الضفة الأخرى، غير مدركة للفيضان الذي يجتاحني.

الصمت، في جوهره، يشبه الحب نفسه: كلاهما يحتاج إلى توازن دقيق. إن زاد الصمت، أصبح ثقيلًا، خانقًا، كما يصبح الحب عبئًا إن لم يُشارك. وإن قلّ، فقد قيمته، كحبل مشدود يرتخي حتى يفقد قوته. وأنا عالق بين هذا التناقض، بين رغبتي في البوح وخوفي من أن تصبح كلماتي عبئًا إضافيًا في عالمكِ.

وفي هذه المساحة بين الصمت والكلمة، أجد نفسي غريبًا، أتحدث بلغة لا يسمعها أحد. هل الحب إذن مجرد صوت في صحراء، صدى يتردد في الفراغ دون أن يصل؟ أم أنه تجربة كاملة بحد ذاتها، لا تحتاج إلى مستمعين لتكون حقيقية؟

وربما، في أعماقي، أعلم أن الحب الذي يعتمد على الآخر للبقاء هو حب هش. الحب الحقيقي، كما أريد أن أؤمن، هو أن أظل أزرع، حتى لو كانت الأرض صخرية، حتى لو لم يُثمر الزرع يومًا. لأن الفعل نفسه، العطاء دون انتظار، هو ما يجعل الحب أعمق من الكلمات، وأبقى من الصمت.

وربما، في أعماقي، أدرك أن العطاء دون مقابل ليس ضعفًا، بل هو حالة من النقاء التي تندر في عالمنا. إنه مثل النهر الذي يجري بلا توقف، يمنح الحياة لكل ما حوله، دون أن يسأل إن كان من يشرب منه سيعود ليشكره. في كل مرة أعطيكِ، أشعر كأنني أتحرر من شيء ما، كأنني أترك جزءًا مني في الكون ليعيش بطريقة لا أملكها.

العطاء، كما أراه، ليس مجرد فعل، بل هو فلسفة، حالة من الانسجام مع ذاتك ومع العالم. حين تعطي دون أن تنتظر، فإنك تتحدى قواعد اللعبة التي تقوم على الأخذ والرد. تصبح أكثر صدقًا مع نفسك، لأنك تدرك أن القيمة الحقيقية ليست فيما تحصل عليه، بل في ما تتركه وراءك.

لكن العطاء أيضًا اختبار للروح. هل يمكن للإنسان أن يمنح دون أن ينهار؟ أن يظل يعطي حتى لو واجه جدرانًا من اللامبالاة؟ ربما العطاء الحقيقي هو أن تمنح وأنت تعلم أن المقابل قد لا يأتي أبدًا. أن تزرع زهرة في أرض صخرية، لا لأنها ستزهر، بل لأن الزراعة بحد ذاتها تذكير بأن الحياة تستمر، حتى في أقسى الظروف.

وفي كل مرة أمنحكِ جزءًا من مشاعري، أكتشف أن العطاء هو ما يُبقيني حيًا. الحب، في جوهره، ليس امتلاكًا ولا مقايضة، بل رغبة في أن تترك أثرًا في حياة من تحب. حتى لو لم يدرك الآخر هذا الأثر، يكفي أن تعرف أنت أنك فعلت ذلك، أنك منحت شيئًا من نفسك بصدق ودون قيد.

العطاء، إذن، ليس ضعفًا بل قوة. إنه اختيار أن تكون مصدرًا للحياة، حتى لو لم يُقدّر الآخرون ذلك. لأن القوة الحقيقية لا تكمن في ما تأخذه، بل في ما تستطيع أن تعطيه دون أن تفقد ذاتك.

وربما، في نهاية المطاف، العطاء هو الوسيلة التي نتصالح بها مع صمتنا، مع أسئلتنا التي لا إجابة لها، ومع الحب الذي لا نعرف كيف ينمو ولا أين ينتهي.

أخطئ بتفكيري حين أسمح لكِ أن تكوني القصة التي أكتبها مرارًا، رغم علمي أن القصص لا تُكتمل دائمًا بمن نريد. أسمح لكِ بأن تصبحي مركز حياتي، رغم معرفتي أن المراكز تتغير مع الزمن، وأنكِ لستِ سوى جزء من مشهد أوسع. لكن لماذا نصرّ، نحن البشر، على تشكيل حياتنا حول شخص واحد، كأن وجوده هو من يمنحنا المعنى؟

الحب، في أبعاده الأعمق، ليس مجرد رغبة في امتلاك الآخر، بل هو تلك الرغبة الملحة في الانصهار معه، في أن يصبح جزءًا من ذواتنا التي نخاف أن تواجه العالم وحيدة. لكن أليس هذا خطأً في حد ذاته؟ أليس الحب الذي يعتمد على الآخر ليكتمل هو نوع من الاستسلام؟

أنا أزرعكِ في نصوصي، لا لأنكِ الحديقة الوحيدة في عالمي، بل لأن الكتابة هي طريقتي الوحيدة لتخفيف ثقل المشاعر. أضعكِ بين السطور كمن يضع زهرة في كتاب، يعلم أنها ستذبل لكنها ستظل شاهدة على لحظةٍ ما. وأنتِ، تأتين إلى النصوص كقارئة، تلتقطين ما يُغذي عقلك، لكنكِ تتجاهلين الجذور التي تمتد في أعماقي.

الصمت، ذلك الشريك غير المرئي للحب، يحمل في طياته تناقضًا لا نهائيًا. إنه يحمينا من مواجهة الرفض، لكنه أيضًا يسجننا في دوامة من الافتراضات. أحيانًا أعتقد أن الصمت أكثر صدقًا من الكلمات، لأنه يُبقي الأشياء كما هي، دون تزييف أو مبالغة. لكنه أيضًا يصبح سلاحًا، يدفعنا نحو الوحدة، نحو تلك الهوة التي لا تُسد إلا ببوحٍ لم يُقال.

وربما، في هذه المسافة بين الصمت والكلمة، أدرك أن الحب الحقيقي ليس فقط في أن نُحب، بل في أن نملك الشجاعة لنقول: “هذا أنا، بكل هشاشتي، بكل مخاوفي، بكل ما لا أستطيع تغييره.” الحب ليس فقط أن تُعطي، بل أن تعرف متى تُعطي دون أن تفقد نفسك.

وأنا أُعطيكِ، لا لأنني أنتظر شيئًا، بل لأن العطاء ذاته هو ما يجعلني أتحرر. أتحرر من خوفي من الفراغ، من خوفي من أن يكون وجودي بلا أثر. أزرعكِ في عالمي كما يُزرع الأمل في أرض قاحلة، ليس لأنه سيزهر، بل لأنه يُبقي الحياة ممكنة.

في النهاية، ربما الحب هو أكبر تناقض نعيشه: أن نبحث عن الآخر لنكمل به ذواتنا، وفي الوقت ذاته نُجبر على مواجهة حقيقتنا وحدنا. أن نتوق للبوح، لكننا نختار الصمت خوفًا من أن يُفسد الكلمات ما لا يُقال. أن نُعطي دون أن نعرف إن كان العطاء سيُثمر، لأن الأثر الحقيقي للحب، كما أراه الآن، هو أن يُعيدنا إلى أنفسنا، أكثر صدقًا، أكثر عمقًا، وأكثر إنسانية.

مقالات ذات صلة:

زر الذهاب إلى الأعلى