المقالح: ذاكرة الشعر وذاكرة الوطن
حدث نيوز : عميد المهيوبي
يرتبط المكان بذاكرة الشعر ووجدان الشعراء دائمًا منذ القدم فالمكان مرآة تنعكس فيها روح الشاعر وتجربته الإبداعية
وهنا يبرز لنا الشاعر الدكتور عبدالعزيز المقالح كغيره من الشعراء الذين أرتبطوا بأوطانهم ارتباطاً وثيقاً وخلدوا في ذاكرتهم الشعرية ذلك الارتباط
وذلك ما نلمسه في تجربة المقالح الذي ربط حياته وشعره بمدينة صنعاء كرمز لليمن وهويته الثقافية والحضارية
صنعاء رمز وطنياً في شعر المقالح
كانت صنعاء بأزقتها الضيقة وشوارعها المتعرجة موضوعاً متكرراً في شعر المقالح وكانت مرآة وجدانه وتجربته الإنسانية العاشقة لهذه المدينة التي لم يفارقها شعره
وقد جعل من كلماته سفينة تبحر في بحر الذاكرة، تحفظ لنا جمال المدينة وعراقتها، وتعبر بنا نحو عوالم من التأمل والفكر العميق ومن مقتطفاته في حب صنعاء قوله :
“هي عاصمة الروح
أبوابها سبعة
– والفراديس
أبوابها سبعة-
كل باب يحقق أمنية للغريب
ومن أي باب دخلت
سلام عليك،
سلام على بلدة
طيب ماؤها طيب
في الشتاءاتِ صحو أليف
وفي الصيفِ قيظ خفيف
على وابلِ الضوءِ تصحو
وتخرج من غسق الوقت
سيدة
في اكتمالِ الأنوثة
هل هطلت من كتابِ الأساطير
أم طلعت من غناء البنفسج
أم حملتها المواويل
من نبع حلم قديم؟!”
وفي قصيدة أخرى اشار المقالح إلى صنعاء كأنشودة تفوح منها رائحة العراقة والجمال ويكشف علاقته الكبيرة بصنعاء ويلخص معاناته كإنسان مغترب وأمله الكبير في العودة إلى حضن الوطن حيث يجد السلام والانتماء
“صنعاء يا أنشودة عبـقـت
وأجاد في إنشادها الأزلُ
إن أبعدتني عنك عاصفة
وتفـرقـت ما بيننا السبُل
فأنا على حبي وفـي خجل
روحي إلى عينيك تبتهل
فمتى تظللني مآذنها
ويضيء في أحضانها الجبل
أأموت يا صنعاء مغتربـاً
لا الدمع يدنيني ولا القُبـلُ ؟”
المقالح شخصية ملهمة للشباب
من خلال تقديم الشباب والاعتناء بمواهب الشباب
خدم المقالح الوطن كثيراً في هذا الجانب وقد جعل من منزله منتدى ابداعي للمواهب حيث كان يقدم الكثير من المثقفين عليه يوم الثلاثاء من كل أسبوع ويجلسون معه ويتبادلون الحديث والنقاش واستعراض العديد من قصائد الشعر القديم والتعليق عليها ثم يعرض كل واحد من الحاضرين نموذج من أعماله وكتاباته ويتم التعليق عليها من قبل الدكتور وتوجيه كل موهبة باتجاهها بما يناسب كتابته وكان يرشد الذي يراه شاعر عمود لما يقوي موهبته ويسقلها ويهديه من مكتبته مايراه ينمي موهبته ومثله شعراء التفعيلة وكُتاب النثر والسرد وقد لمع نجم الكثير من الشعراء الذين كانوا يلزمون مجلس المقالح وبرزوا للواجهة شعراء أفذاذ أمثال يحيى الحمادي وزين العابدين الضبيبي والكثير غيرهم من النجوم
المقالح: جسر ثقافي بين اليمن والعالم العربي
عمل المقالح على استقدام الكثير من المثقفين والأكاديميين العرب للتدريس في الجامعات اليمنية مثل الاستاذة في قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة ميشيغان الأمريكية الناقدة العراقية وجدان الصائغ التي عملت استاذة في جامعة ذمار خلال الفترة من 2000 إلى 2009 م والكثير من النقاد والأكاديميين العرب فقد كان المقالح وجه ثقافي كبير وقد عمل على استقدام الكثير من الطلاب العرب للدراسة في جامعة صنعاء.
الانتماء في شعر المقالح
كرس المقالح في كثير من اشعاره حبه الكبير لوطنه واعتزازه بانتمائه اليمني وجعل اليمن جزء لا يتجزأ من ضميره وحاضرة معه في صحوه وفي منامه وربطها بوجوده ومن ذلك قوله
“في ضميري يمن
تحت جلدي تعيش اليمن
خلف جفني تنام
وتصحو اليمن،
صرت لا أعرف الفرق ما بيننا
أينا يا بلادي يكون اليمن؟”
الحداثة في شعر المقالح
تميزت كتابات المقالح في البداية بشيء من الكلاسيكية لكنه سرعان ما انفتح على الحداثة ومزج بين الأصالة والمعاصرة
ومن ذلك قوله :
هذا زمن التغيير
إذا لم تتغير تتعفن
تتخطاك مواقيت الصحوة
لا تدري السر الكامن
في أن الأرض تدور
وأنك إنسان
من حقك أن تحيا وتموت
بأمر الله
وليس بأمر مليك أو سلطان.
المقالح رمزاً للإصرار ومقارعة الطغاة
ساهم المقالح كثيراً في الثورة الفكرية والسياسية اليمنية وظهر كعاشق للنهار ومحفز على الإصرار وهو يخاطب الثوار بذلك قائلاً:
“الصمت عار
الخوف عار
من نحن؟
عشاق النهار
نبكي،
نحب،
نخاصم الأشباح
نحيا في إنتظار
سنظل نحفر في الجدار
إمّا فتحنا ثغرة للنور
أو متنا على وجه الجدار”
صوت المأساة اليمنية في قصيدة المقالح
صرخة المعاناة كانت حاضرة في شعر المقالح المتنوع بين الرؤية الفلسفية العميقة والالتزام السياسي والاجتماعي منطلقاً من معاناة الشعب اليمني وطارحاً تساؤلات وجودية كبرى ودعوات للتحرر من الاستبداد والهيمنة وقد تجلى ذلك في قصيدة “نافذة على الروح” التي تزامنت مع حرب اليمن الأخيرة عام2015م التي افتتح مطلعها محدثاً الريح أن ينادي الموت بقوله:
نادِ المنايا، وقل للريحِ: يا ريح
الناس في الحرب قتلى أَو مجاريح
يسارعون إِليها دونما سبب
كأنهم حطب للنار مطروح
أَجسادهم فوق صدر الأرض عارية
فإِن تجد كفناً فالأَثل والشيح
إِلى متى يتخلى الشعب عن دمه
وليس يسعفه (عيسى) ولا (نوح)؟
لا العتب يوقظه.. لا السوط يلهبه
ولا يحركه هجو وتجريح
تجمدت كلمات الله في فمه
وغام في صدره ذكر وتسبيح
مساجد الله في الأَسحار صامتة
تجمدت في المحاريب التراويح
القلب منفطر حزناً ومنكسر
والعين دامعة, والروح مجروح
الضالعون الضحايا بئس ما اقترفوا
هم الزنازن فيها والمفاتيح
ماذا تبقى لهم منهم؟! وليس لهم
في عالم اليوم لا نبض ولا روح
تكاثرت في زمان الرعب آلهة الــ
ـفوضى جزافا.. فقل للريح: يا ريح
القضية الفلسطينية في شعر المقالح
يقول : الشاعر “يحيى الحمادي أحد تلاميذه في منشور له على صفحته في الفيسبوك ” أن الدكتور عبدالعزيز المقالح ظل صادقًا ووَفيًّا مع قضايا أمته العربية والإسلامية حتى آخر نفَس، ورغم ما عاشه وطنُه من اهتزازات عظمى إلا أنه لم يتنكّب عن دوره القومي، ولم ينسلخ عن عروبته قيد أنملة.
وتابع “لا يَخفى عن بصير أن القضية الفلسطينية ظلت على رأس تلك القضايا والاهتمامات في وجدانه الحي، فقد كتب من أجلها ما لا يحصى من المقالات والقصائد، وأقام العديد من النشاطات والندوات الفكرية، كان أهمها ندوة الفكر والأدب في جامعة صنعاء لدعم الانتفاضة الفلسطينية 1989 وقد حضر الندوة 100 مثقف وأديب عربي. وبعد فترة وجيزة من هذا التاريخ نراه يخصص كتابًا لدعم الانـتفاضـة مطلع تسعينات القرن الماضي أسماه (صدمة الحجارة)، والأهم من هذا وذاك أنه ابتدأ دواوينه الأولى بقصيدة لفلسطين وختم مشواره وآخر نص في حياته لفلسطين أيضًا، فمنذ بداياته الأولى في ديوان “مارب يتكلم” 1974 كتب في الذكرى العشرين للنكبة قصيدة (الصوت والصدى)، التي مطلعها:
“عشرون عامًا لم أنَمْ..
عينايَ جثتانِ يَنهش الظلامُ فيهما
ويَنخَرُ الألمْ..
حنجرتي مقطوعةٌ..
صرتُ بغير فَمْ..
صَرَخت..
مات الصوتُ في الأعماقْ..
الريحُ حولي ترسم الإخفاقْ..
تأكل ما تبقى من حروف الأمل القديمِ
والأشواقْ”…… إلخ
وواصل الحمادي ” لقد ختم المقالح مشواره بكتابة آخر قصيدة له في حياته، بعد أحداث غزة الأخيرة 2021م بعنوان (غزة تكتب قصائد الدم والانتصار) ومطلع القصيدة:
“ماذا أكتُبُ؟!
صار الحِبرُ دَمًا
والماءُ دَمًا
والكلماتُ دَمًا
والعالَمُ غابَةَ قَتلٍ ومقابرْ !..
أين أوَاري وَجهِي
أدفِنُ كلماتي
خَجَلًا مِن أطفالكِ يا غزَّةُ
يا أمَّ الأبطالِ المَنذورين لِتَحريرِ الأرضِ
وقَتلِ الوَحشِ الصّهيونيِّ
الغادر.”
إعلان اليأس: قصيدة المقالح في لحظة مواجهة المرض والتأمل
في عام 2018م أصيب الشاعر بوعكة صحية وشعر بحاجته للقرب من الله واليأس من العمر والحياة بقصيدته بعنوان “أعلنت اليأس”
أنا هالكٌ حتمًا
فما الداعي إلى تأجيل
موتي
جسدي يشيخُ
ومثله لغتي وصوتي
ذهبَ الذين أحبهم
وفقدتُ أسئلتي
ووقتي
أنا سائرٌ وسط القبورِ
أفرُّ من صمتي
لصمتي.
رحيل المقالح
رحل الدكتور عبدالعزيز المقالح في 28-11-2022م بعد صراع مع المرض مخلفاً لنا إرثاً شعرياً وفكرياً به ما زال حياً في قلوب الملايين من اليمنيين والعرب ، فهو شاعر الثورة والحرية، وفيلسوف الوجود والكينونة
تغمد الله شاعرنا بواسع رحمته واسكنه فسيح جناته
الذكرى الثانية لرحيل المقالح