منذ خمسة أيام، والصحفية غدير تصرخ في فضاءٍ خالٍ من الإنصات، تطالب الدولة بالقبض على قاتلٍ أطلق رصاصه ورحل، وكأن شيئًا لم يكن. ومع ذلك، لا شيء يتحرك. العدالة هنا لا تسير على عجلتها الخاصة، بل تنتظر الصراخ، الانتفاضات، والاحتجاجات لتُدفع إلى الأمام.
لماذا يجب علينا دائمًا أن نرفع أصواتنا ونخرج إلى الشوارع لنطالب بحقوقنا الأساسية؟ أليست الدولة مسؤولة عن تحقيق العدالة تلقائيًا؟ أم أن العدالة باتت رفاهية لا تُمنح إلا لمن يصرخ بأعلى صوت؟ يبدو أن السلطة فقدت إدراكها لمعنى الواجب، فأصبحت نائمة، لا تصحو إلا تحت وطأة الاحتجاجات.
لكن هذا ليس مجرد خلل إداري. إنه سؤال فلسفي أعمق: ما هو دور الدولة إذا لم تكن حامية للعدالة؟ ولماذا أصبحت الحقوق أشبه بالمساومات؟ الدولة تُطالبنا بالولاء والطاعة، تدين علينا بواجباتٍ يومية لا نقصر فيها، ولكن حين يتعلق الأمر بحقوقنا، تتباطأ، تتلكأ، وكأنها تنتظر أن نذكّرها بوجودها.
في هذه المعادلة المقلوبة، يُختزل المواطن إلى صرخة، إلى احتجاج. تصبح حقوقه ليست شيئًا أصيلًا، بل مكافأة تُمنح بعد معركةٍ طويلة من الضغط والصراخ. هل هذه هي فلسفة السلطة الحديثة؟ أن تجعلنا نؤمن بأن العدالة ليست تلقائية، بل تحتاج إلى أن نستحقها عبر الصراعات؟
إذا كانت الدولة ترى نفسها كحامية، فلماذا تبدو خصمًا في كل قضية؟ لماذا لا تتحرك إلا بعد أن تصبح الأمور فضيحة تُهدد صورتها العامة؟ العدالة، في جوهرها، ليست مجرد قانون، إنها التزام أخلاقي لا يتطلب صراخًا ولا مناشدات. ومع ذلك، هنا، تبدو العدالة كترفٍ مؤجل، وكأن الحق يُعطى بناءً على قوة الاحتجاج، لا على بديهية وجوده.
إن كانت الدولة تُطالبنا بالقيام بواجباتنا، فلماذا لا تؤدي واجباتها هي الأخرى؟ إن كانت تُطالبنا بالصبر، لماذا لا تُظهر هي العجلة في تحقيق العدالة؟ ربما المشكلة أعمق من ذلك، ربما نحن أمام نظام يرى العدالة كقيمة إضافية، لا أساسًا تقوم عليه العلاقات بين الحاكم والمحكوم.
وفي هذا العبث، نفقد شيئًا جوهريًا: الثقة. نكتشف أن الحقوق تُشترى بالصرخات، وأن النظام الذي يُفترض أنه أساس الاستقرار، لا يتحرك إلا تحت ضغط الفوضى. فأي معنى يتبقى للدولة إذا كان صوت المواطن هو الوقود الوحيد لعجلاتها؟ وأي مستقبل نرجوه إذا كانت أبسط الحقوق تحتاج إلى نضالٍ مستمر لتتحقق؟ العدالة ليست هبة، والحق ليس ترفًا، بل هما الأساس الذي لا معنى للدولة من دونهما.