على أطراف السوق الكبير لتلك المدينة، كانت الحياة تمضي في فوضى رتيبة. تجار يعرضون بضاعتهم، أصوات المناداة تختلط بزحمة العربات، ورائحة الغبار تتسرب إلى الأنفاس. وسط هذا الصخب، وقف “يوسف” يتأمل المشهد. لم يكن جزءًا من هذه الحركة، لكنه كان دائم الحضور في هذه الزاوية، كأن الزمن قد تركه هنا، مراقبًا بلا هدف.
كان يوسف يرتدي جلبابًا بسيطًا، طغى عليه لون الشمس والبؤس. عينه اليسرى تتجول في المارة، أما اليمنى فتبدو كأنها تنظر إلى شيء أبعد، شيء لا يراه إلا هو. المارة لا يعيرونه انتباهًا، لكنه يشعر بثقل وجودهم. لم يكن يعرف أسماءهم، لكنهم جميعًا كانوا مألوفين، كأنهم انعكاس لما يبحث عنه.
مرّ أمامه رجل يجرّ عربة محملة ببراميل ماء، وامرأة تحمل على رأسها صينية خبز، وصبي صغير يركض خلف طائر طار بعيدًا. كان المشهد يتكرر يوميًا، لكن يوسف لم يملّ من مراقبته. في كل وجه عابر كان يرى نفسه، يتساءل: “هل هم أيضًا لا يعرفون إلى أين يمضون؟”
في يومٍ ما، جلس بجواره شيخ مسنّ يحمل عصا ويضع طاقية بيضاء على رأسه. لم ينظر يوسف إليه في البداية، لكنه شعر بنظرات الرجل تخترق سكونه. أخيرًا، تحدث الشيخ بصوت هادئ:
– “ما الذي تنتظره هنا، يا ولدي؟”
أجاب يوسف دون أن يلتفت:
– “لا أعرف. ربما أنتظر أن أعرف.”
ضحك الشيخ بصوت مبحوح، وكأن كلام يوسف أعاده إلى شيء مضى عليه زمن طويل. قال:
– “الناس هنا يركضون خلف حاجاتهم، لكنهم مثلك لا يعرفون إلى أين يذهبون. نحن جميعًا عابرون يا بني، الفرق أننا نُحرك أرجلنا حتى نُقنع أنفسنا بأننا نعرف الطريق.”
تردد كلام الشيخ في رأس يوسف طوال الليل. “عابرون”، قال لنفسه، لكنه لم يكن مقتنعًا. شعر أن هناك أكثر من ذلك، أن العبور ليس مجرد تنقل من مكان لآخر.
في اليوم التالي، لم يعد إلى زاويته المعتادة. بدلًا من ذلك، سار مع المارة، لا يعرف إلى أين يذهب. لم يكن يحمل شيئًا سوى أسئلته. عبر الشوارع، الحارات الضيقة، حتى وصل إلى أطراف المدينة، حيث الحقول تمتد بلا نهاية.
توقف للحظة، نظر إلى السماء التي بدت أوسع من كل ما عرفه. هناك، وسط هذا الاتساع، أدرك أن العبور ليس وجهة، بل حالة. أن الحياة ليست انتظارًا أو هروبًا، بل مشاركة في التيار، مهما بدا غامضًا.
عاد يوسف إلى المدينة بعد أيام. لم يتوقف عن مراقبة المارة، لكن هذه المرة بعين مختلفة. لم يكن يبحث عن إجابة، بل بدأ يفهم أن العبور بلا وجهة هو ما يجعلنا بشرًا، وأن الطريق نفسه قد يكون الوجهة.